وصالح أمير الصرب مقابل جزية قدرها ثمانون ألف دوك عان 857، وفي السنة
الثانية دخل السلطان إلى بلاد الصرب، وحاصر بلغراد، ودافع عنها المجر، ولم
يتمكن العثمانيون من فتحها، ثم صار الصدر الأعظم محمود باشا ففتحها بين
861 – 863.
وتمكن من فتح بلاد الموره عام 863، وفر ملكها إلى
إيطاليا، كما فتح الجزر التي في بحر إيجه قرب مضيق الدردنيل. وعقد صلحاً
مع اسكندر بك أمير ألبانيا.
توجه سراً إلى الأناضول ففتح ميناء
(اماستريس) الذي يتبع جنوه، وأكثر سكانه من التجار، كما دخل ميناء سينوب ،
واحتل مملكة طرابزون دون مقاومة ، وكانت تتبع القسطنطينية.
سار
إلى أوروبا لمحاربة أمير الأفلاق لظلمه وتعديه على العثمانيين ، فطلب
الأمير صلحاً مقابل جزية سنوية قدرها عشرة آلاف دوك ، فوافق السلطان غير
أن هذا الأمير لم يطلب هذا الصلح إلا لتتاح له الفرصة ليتفق مع ملك المجر
لمحاربة العثمانيين. فلما اتفقا، وعلم السلطان أرسل إليه رجلين يستوضح
الخبر فقتلهما أمير الأفلاق، وسار مغيراً على أملاك الدولة العثمانية في
بلغاريا، فأفسد فيها ، واستاق الأسرى. فأرسل إليه السلطان وفداً يطلب منه
أن يعيد الأسرى، ويبقى على صلحه ، فمثل بهم شر تمثيل ، فسار إليه السلطان
ففر أمير الأفلاق إلى ملك المجر ، فضم السلطان الأفلاق إلى العثمانيين ،
وعين أخا أمير الأفلاق والياً عليها من قبله.
وامتنع أمير
البوسنة عن دفع الخراج فسار إليه السلطان ، وانتصر عليه ، وضم البوسنة
للدولة العثمانية ، وحاول ملك المجر مساعدة أهل البوسنة (البوشناق) لكنه
هزم. وأسلم الكثير من البوشناق بعد ذلك
. واصطدم السلطان مع
البنادقة الذين يملكون بعض المواقع في بلاد المورة، وجزراً كثيرة في بحر
إيجه ، وقد هاجم البنادقة بعض المراكز العثمانية ودخلوها ، فسار إليهم
السلطان ففروا من مواقعهم ، ودخلها العثمانيون. وبعد هدنة سنة عاد
البنادقة لغيهم إذ أرادوا استعادة ما فقدوه ، وبدؤوا يغيرون على الدولة
فكانت النتيجة أن فقدوا بعض مواقعهم المهمة.
بدأ البابا يدعو إلى
حرب صليبية فشجع اسكندر بك أمير ألبانيا على نقض عهده مع السلطان، ودعا
ملوك أوربا وأمرائها لمساندته، غير أن البابا قد توفي ولم تقم الحرب
الصليبية، لكن اسكندر بك نقض العهد، وحارب العثمانيين، وكانت الحرب سجالاً
بين الطرفين. وتوفي اسكندر بك عام 870.
اتجه السلطان إلى
الأناضول فضم إليه إمارة القرمان نهائياً إذ اختلف أبناء أميرهم إبراهيم
الذي أوصى عند وفاته لابنه إسحاق فنازعه إخوته، فأيد السلطان إخوة إسحاق
عليه وهزمه ، وعين مكانه أحد إخوته ، فلما رجع السلطان إلى أوروبا ، احتل
إسحاق قونية وفرض نفسه ، فرجع إليه السلطان وهزمه ، وضم الإمارة إلى
الدولة العثمانية.
وهاجم أوزون حسن أحد خلفاء تيمورلنك شرقي
الأناضول، واحتل مدينة توقات، فأرسل إليه السلطان جيشاً هزمه عام 874، ثم
سار إليه السلطان بنفسه على رأس جيش وأجهز على ما بقي معه من جنود.
عرض السلطان عام 878 على أمير البغدان اصطفان الرابع الجزية حتى لا يحاربه
فلم يقبل الأمير، فأرسل إليه جيشاً وانتصر عليه بعد حروب عنيفة، ولكن لم
يستطيع فتح هذا الإقليم ، فعزم السلطان على دخول القرم للإفادة من فرسانها
في قتال البغدان ، وتمكن من احتلال أملاك الجنوبيين الممتدة على شواطئ شبه
جزيرة القرم ، ولم يقاوم التتار سكان القرم العثمانيين بل دفعوا لهم
مبلغاً من المال سنوياً . وأقلعت السفن الحربية العثمانية من القرم إلى
مصب نهر الدانوب فدخلت ، وكان السلطان يدخل بلاد البغدان عن طريق البر ،
فانهزم اصطفان الرابع ، فتبعه السلطان في طريق مجهولة ، فانقض عليه اصطفان
الرابع وانهزم السلطان ، وارتفع اسم اصطفان الرابع وذلك عام 881 .
وصالح السلطان البنادقة ، وانهزم أمام المجر عندما سار لفتح ترانسلفانيا ،
ولكنه في البحر فتح الجزر التي بين اليونان وايطاليا ، كما فتح مدينة
(اوترانت) في جنوبي شبه جزيرة ايطاليا عام 885 ، وحاصر في العام نفسه
جزيرة ( رودوس) ولم يتمكن من فتحها.
وفي أثناء حصار القسطنطينية
عرف ضريح أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري رضي الله عنه، فبنى عنده مسجداً ،
وأصبح تنصيب السلاطين يتم بهذا المسجد.
وتوفي السلطان محمد الفاتح يوم 4 ربيع الأول عام 886 عن عمر ينوف على خمس وخمسين سنة بعد أن حكم إحدى وثلاثين سنة.
بايزيد الثاني ( 886-918 هـ)
كان
بايزيد أكبر أولاد السلطان محمد الفاتح ، وكان حاكماً في عهد أبيه مقاطعة
القرمان ، وكان الولد الثاني للسلطان محمد الفاتح يُدعى (جم) ، ويحكم
مقاطعة القرمان ، والأمير بايزيد هو الذي سيتولى السلطنة بعد وفاة أبيه ،
وكلا الوالدين كان بعيداً عن استانبول ، وكانت رغية الصدر الأعظم قرماني
محمد باشا في تولية الأمير جم ، لذا فقد أرسل من يخبره بوفاة والده كي
يأتي وربما استطاع تسلم الأمر ، غير أن حاكم الأناضول سنان باشا أردك
اللعبة فتقل رسول الصدر الأعظم إلى الأمير جم قبل أن ينقل له الخير ،
وكانت رغبة الأنكشارية وعطافتهم مع الأمير بايزيد فلما أخبروا بما فعل
الصدر الأعظم قاموا عليه وقتلوه ونهبوا المدينة ، وأقاموا (كركود) نائباً
عن أبيه حتى يصل إلى عاصمته.
وصل الأمير بايزيد فاستقبله
الانكشاريون ، وطلبوا منه العفو على ما فعلوا كما طلبوا منه طلبات نفذها
لهم كلها ، وبويع بايزيد سلطاناً ، وتسلم الأمر ، ومع أنه كان محباً للسلم
وللاشتغال بالعلم إلا أن أحوال البلد اقتضت أن يترك ما عرف ويتسلم الأمر
بشدة.
عندما وصل خبر وفاة السلطان محمد الفاتح إلى ابنه جم سار
إلى بورصة ، واحتلها عنوة ، ودعا أخاه السلطان بايزيد لتقسيم البلاد
بينهما بحيث يستقل جم بآسيا ، ويستقبل بايزيد بأوربا ، فلم يوافقه السلطان
وحاربه ، ودخل بورصة ففر جم ، والتجأ إلى المماليك عام 886 حيث بقي عاماً
كاملاً عند السلطان قايتباي في القاهرة ، وبعدها انتقل إلى حلب ، وبدأ
يراسل الأمير قاسم حفيد أمراء القرمان ، ووعده بإعادة إمارة القرمان إن
تمكن الأمير جم أن يحكم الدولة العثمانية ، فسارا معاً للهجوم على قونية
لكنهما فشلا فشلاً ذريعاً.
وحاول الأمير جم المصالحة مع أخيه
السلطان أن يعطيه مقاطعة ، فرفض ذلك السلطان حيث فهم تقسيم الدولة ،
وانطلق الأمير جم إلى رهبان جزيرة رودوس فاستقبلوه ، غير أن السلطان اتصل
بهم ، وطلب منهم إبقاء الأمير جم عندهم تحت الإقامة الجبرية مقابل دفع
مبلغ من المال من السلطان للرهبان ، وعدم التعرض للجزيرة ما دام حياً
فوافق الرهبان على ذلك ، ورفضوا تسليمه إلى ملك المجر ، ثم رفضوا تسليمه
إلى إمبراطور ألمانيا ليتخذوه سيفاً يقاتلون به الدولة العثمانية ، ولكنه
سلم بعدئذ إلى فرنسا ، ومنها إلى البابا والمهم أنه مات عام 900 وهو بهذه
الصورة وقد استراح منه السلطان سواء أكان تحت الإقامة الجبرية أم عندما
فارق الحياة.
وحصلت خلافات مع مصر التي كان لها نفوذ على بعض
الإمارات في جنوب الأناضول ، ووقع قتال بين الطرفين غير أن باي تونس قد
أصلح بينهما ، خوفاً من زيادة القتال بين المسلمين على حين أن النصارى
يتربصون الدوائر بالمسلمين ، ويسرون للخلافات التي تحدث بينهم.
وفشل العثمانيون في فتح بلغراد ، وتوطدت الصلات مع بولونيا عام 895 ثم حدث
الخلاف بينهما إذ كان كل من الجانبين يدعي الحماية على البغدان ، وقد
اعترف أمير البغدان بالحماية العثمانية ، وقاتل معهم البولونيين.
وبدأت الدول تقترب من الدولة العثمانية ، وتطلب عقد الحلف معها للإفادة
منها في قتال خصومها ، وخاصة الإمارات الإيطالية ، وقد حارب العثمانيون
دولة البندقية ، وانتصروا عليها ، فاستنجدت بملك فرنسا والبابا ، وكانت
حرباً صليبية بين الطرفين.
وظهرت دولة روسيا عام 886 حيث استطاع
دوق موسكو ايفان الثالث من تخليص موسكو من أيدي التتار ، وبدأ بالتوسع ،
وفي عام 897 وصل أول سفير روسي لاستانبول ، ويحمل معه الهدايا ، وكان وصول
السفير الثاني عام 901 وقد حصل على بعض الامتيازات للتجار الروس.
كان السلطان بايزيد الثاني قد عين أولاده الثلاثة بقوا أحياء على الولايات
، فكان كركود والياً على شرقي الأناضول ، وأحمد على أماسيا ، وسليم على
طرابزون كما عين حفيده سليمان بن سليم على مدينة (كافا) في شبه جزيرة
القرم.
وكان سليم محارباً طموحاً فأراد أن يكون والياً على بعض
المقاطعات في أوربا ليمارس الجهاد ، ويؤيده في ذلك الانكشارية والعسكريون
عامة ، ولكن السلطان قد رفض من ابنه ذلك كما رفض الولد ولاية طرابزون ،
وانتقل إلى ابنه سليمان في كافا ، ثم جمع جيشاً ، وسار إلى أوروبا وحاول
السلطان تهديد ولده الذي أصر على القتال ، ونتيجة حبه للسلم تراجع عن
قراره وعينه على بعض المقاطعات الأوروبية عام 916 ، فطمع سليم وسار إلى
أدرنه ، وأعلن نفسه سلطاناً عليها ، فحاربه أبوه وهزمه ، وفر إلى القرم ،
ثم تدخلت الانكشارية فعفا السلطان عنه ، وأعاده إلى أوروبا ، فسار به
الانكشارية إلى استانبول ، وطلبوا من السلطان التنازل للأمير سليم عن
الحكم فوافق واستقل عام 918 ، وانتقل السلطان ليعيش بعيداً عن الحكم فتوفي
في الطريق.
أما الأمير كركود ، وهو الولد الكبير للسلطان فقد رأى
أخاه سليماً يفرض رأيه لذا اتجه إلى مقاطعة صاروخان ، واستلمها دون أمر
أبيه ، فحاربه وهزمه قبيل وفاته بقليل.
سـليـم الأول ( 918 - 926هـ )
بعد
أن تنازل بايزيد لابنه سليم عن الحكم بدعم الانكشارية ، أرضى السلطان سليم
الانكشارية وتوجه إلى آسيا للتخلص من إخوته الذين ينازعونه السلطة أو لا
يرضون به سلطاناً ، فتعقب أخاه أحمد إلى أنقره ، وقبض عليه بعد جهد ،
وقتله ، ثم سار إلى ولاية صاروخان وتتبع أخاه الآخر كركود ففر منه ، وبعد
البحث عليه تمكن منه وقتله ، وأخذ خمسة من أولاد إخوته في بورصة وأمر
بقتلهم ، واطمأن بعدها - حسب قناعته - من المنافسة الأسرية. وكان قد عين
ابنه سليمان حاكماً على استانبول ليتفرغ لأموره التي في رأسه.
انتقل بعد ذلك إلى أدرنة فوجد سفراء البندقية ، والمجر ، وموسكو ، وسلطنة
مصر ينتظرونه ، فعقد معهم معاهدات حيث يريد أن يتفرغ إلى ما يخطط له.
إن السلطان سليم ذو شخصية قوية ، وهو عسكري بفطرته ، لذا كانت نظرته إلى
القضايا كلها من وجهة نظر عسكرية ، فيرى أن الأمور المستعصية لا تحلها إلا
القوة ، وهذا ما جعل العسكريين يحبونه ، ويعملون على تسلمه السلطة.
إن سياسة الدولة العثمانية في زمن السلطان سليم الأول سارت على هذه الأسس
ألا وهي القضاء على الدولة الصفوية الشيعية ، وضم الدولة المملوكية ،
وحماية الأراضي المقدسة ، وملاحقة الأساطيل البرتغالية ، ودعم حركة الجهاد
البحري في الشمال الأفريقي للقضاء على الأسبان ، ومواصلة الدولة جهادها في
شرق أوروبا .
رأى السلطان سليم أن دولته قد أصبحت أقوى الدول
الإسلامية آنذاك ؛ لذا عليه أن يقوم بالمهمة الملقاة على عائقه في توحيد
أبناء الأمة المسلمة. ورأى أن الأندلس قد سقطت بيد النصارى الأسبان ، ولم
تعد هناك فائدة للضغط على أوربا من جهة الشرق للتخفيف عن المسلمين في
الغرب.
ورأى أن أوربا النصرانية لا يمكن مواجهتها إلا بالمسلمين
كافة ؛ لذا يجب أن يخضع المسلمون لدولة واحدة ، ولا شك أن يفكر في أن هذا
الخضوع يجب أن يكون للعثمانيين بصفة أن دولتهم أقوى الدول الإسلامية
القائمة يومذاك ، ورأى أن دولة المماليك قد ضعف أمرها ، ولم تتمكن من
تأدية دورها في مواجهة البرتغاليين الذين قدموا على المسلمين من الجنوب ،
وأن الخلافة العباسية في مصر ليست سوى خلافة صورية يتصرف بها المماليك كيف
يشاءون.
ورأى أن البرتغاليين يهددن العالم الإسلامي من جهة
الجنوب ، ويهددون باحتلال المدينة المنورة ، وأخذ رفات النبي الكريم محمد
بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وعدم تسليمها حتى يتخلوا عن القدس
للنصارى ، وقد عجز المماليك عن مقاومتهم ، وفوق هذا فإن هؤلاء البرتغاليين
قد وجدوا لهم أعواناً بين المسلمين أنفسهم إذ طلب الصفويون من البرتغاليين
أن يشكلوا حلفاً ضد العثمانيين بل ضد أهل السنة من المسلمين ، ورأى أيضاً
أن موقف الصفويين في الخليج ضد البرتغاليين كان موقفاً فيه كثير من
الميوعة.
ورأى أن الصفويين بعامل الخلاف المذهبي بينهم وبين
العثمانيين قد بدؤوا يتحرشون بالعثمانيين من جهة الشرق ، ويحاولون التوسع
، كما يعملون على نشر المذهب الشيعي ، فقد دخل الشاه إسماعيل الصفوي ديار
بكر ، وجعل عاصمته تبريز القريبة ، وطلب من المماليك التحالف معهم ضد
العثمانيين للوقوف في وجه توسعهم. كما ساعد الأمير أحمد ضد والده السلطان
بايزيد الثاني ، ثم ضد أخيه السلطان سليم ، فلما تمكن السلطان من أخيه كان
لا بد من ضرب من كان يعاونه.
وسافر الخليفة العثماني من مصر
متجهاً نحو الأناضول عن طريق الشام ، وقد عين حاكماً على مصر خير بك ،
وترك عنده حامية من الانكشارية ، واصطحب معه الخليفة العباسي المتنازل أو
المخلوع ، ومر على دمشق ، وأقام فيها مدة ، بنى خلالها الجامع على ضريح
محيي الدين بن العربي ، ومر على حلب وأقام بها شهرين ، ثم سافر إلى أدرنه
، وهناك جاءه سفير أسبانيا من أجل السماح لنصارى الأسبان بزيارة بيت
المقدس مقابل مبلغ بدفع له سنوياً ، كما كان الأمر مع المماليك ، وبدأ
يستعد لمحاربة الصفويين غير أنه توفي في 9 شوال عام 926